قــالت ســارة:
احتضنت يحيى بقوة ونحن عائدون إلى منزلنا وكأنـّني أخاف أن يغيب عن عيني لحظة واحدة .. رفضت كل المحاولات أن يحمله أحد بدلاً مني في السيارة .. أخاف لو تركته أن يتسلل ويدخل داخل رحمي مرة أخرى ..
لا أستطيع أن أبعده عن أحضاني لحظة .. وعندما طلبت الممرضة أن تودعه حجرة الأطفال كي أستريح من إرهاق الولادة رفضت بإصرار وكدت أقتلها .. ورفضت حتى أن ينام فى سريره الصغير في المستشفى، وأصريت أن ينام بجواري، وأفسحت له مكاناً ليكون ملتصقا بي .. ألم يكن ينام بجوار قلبي لأيام وشهور؟! كيف أستطيع فراقه وقلبي أحبه قبل أن تراه عيني؟!!
أجمل طفل رأته عيني .. ولاّ لأني أمّه بأقول كده؟
أمّه؟! سبحان الله .. كيف تحولت في شهور قليلة من فتاة بريئة تستطيع حشو العالم فى جيوبها، وتلمع عيونها بالحيوية والإندفاع والجنون، إلى أم هادئة عاقلة تخشى من نسمة الهواء أن تصيب ولدها؟ .. وتوافق بلا تردد أن تموت هي ولا يخدش إصبع وليدها؟ .. سبحان الله .. لا يمكن أن تتحول الأنثى إلى هذه الدرجة بملء إرادتها .. بل لابد من غريزة ربانية تغزو قلبها بعشق هذا الطفل قبل أن تراه، كي تقبل كل هذا الألم والإرهاق، حتى يشب وليدها رجلاً .. يا الله .. حتى فى عشق المرأة لأطفالها يكون الله ثالثهما ..
قـال عمـر:
والله وبقيت أب يا عم عمر .. إيه ده إزاي يعني؟ .. يعني المفروض أعمل إيه؟
لا أنا بجد لسه متلخبط وحاسس إني إتاخدت على خوانة يا رجالة .. يعنى نخرج من البيت إتنين ونرجع تلاتة؟ .. بس برضه ح أطير من الفرحة .. وكل ما أبص ليحيى أشوفه ملاك جميل نائم فى أحضان أمه التي ترفض أن يحمله غيرها .. وناقص تديهولي على عرض حال دمغة .. بس بجد أنا لو منها وشفت العذاب ده كله لا يمكن أخلى حد يلمسه .. الحمد لله أن الأم هى اللي بتولد مش الأب .. وكفاية العض والخربشة اللي شفتهم من سارة فى الولادة ..
والمشكلة انى مش عارف أشيله خالص .. وحاسس إني بأشيل قطعة كريستال ستنكسر من أي حركة خاطئة .. والكل يصرخ فيّ؛ سارة وأمي وحماتي بألف تحذير: حاسب حتلوح رقبته .. حط ايدك في ظهره .. ما تبوسوش جامد .. دقنك ح تشوكه .. حتى قررت أن أتفرج عليه وهو على ذراع أمه .. يعني لو سمحتلي .. رغم إن أنا اللي دفعت كل التكاليف في المستشفى وخلافه .. كمان إكتشفت إن عبارة: ألف مبروك، واللي جابلك يخليلك .. معناها: إدفع ياسيدى من سكات .. سمعتها ألف مرة من العمال والممرضات في المستشفى حتى توسلت لهم أن نرجع البيت فورررررراً ..
قــالت ســارة:
آ
ه .. واضح إن تأثير المسكن حيبدأ يروح وبدأت أشعر بأن 10 فتوّات إدوني علقة جامدة جداً .. أو إني مشيت من طنطا لأسوان .. آلام في كل جسمي، ولا أريد إلا أن أنام ..
وتركت تحضير الطعام وأمور البيت لأمي وحماتي وأخذت يحيى بجواري وأنا أكاد أتفتت من التعب .. واستغرقت في النوم في لحظات معدودة...... إيه ده هو أنا لحقت أنام؟ ده أنا ما كملتش نصف ساعة؟ ده صوت قطة ده ولا إيه؟.. مين ده؟.. آآآآآه ده يحيى ..
إيه يا حبيبي بس الله يهديك بتعيط ليه؟ .. نفسي أنام ولو ساعتين .. بجد ح أموت من التعب .. يا ماااااااااما الحقيني أعمل إيه؟
وجاءت أمي على صراخي وهي تضحك وتقول: علشان تعرفي الغُلب اللي انتي وريتهولي وانتي صغيرة ..
فرددت وأنا أكاد أبكي: طيب يا ماما خديه دلوقتى علشان أنام واديله رضعة .. وأنا أول ما أصحى ح أعرف كل حاجة على طول ..
رفضت ماما بإصرار وردت عليّ: بلاش دلع، قومي رضعي الولد، ده ميت من الجوع ..
فرددت بتعجب: أرضعه؟! .. إزاي؟ مفيش لبن لسه .. لا لا ما أعرفش .. أتكسف يا ماما ..
فردت وهى تكاد تضربني: تتكسفي من إيه يامجنونة انتي؟ .. يالاّ الولد ح يموت من الجوع .. وبعدين هو لما يرضع يا حبيبتي ربنا حيبعت له رزقه وحييجي اللبن .. يالا بلاش دلع ..
قلت باستسلام: طيب يا ماما .. من فضلك أخرجي وأنا حارضعه ..
خرجت ماما وتركتني مع يحيى .. ضممته إليّ والقمته صدري بأيدي مرتجفة، وأنا أتوقع أن يرفضه أو الاّ يعلم كيف يرضع .. ويا للعجب كأنه غريق وجد قارب النجاة .. وجدته يحرك شفتيه الصغيرتين ويرضع بكل هدوء واطمئنان .. سبحان الله من علمه هذا؟ سبحانك يارب .. من أين سيأتى الحليب؟.. آه .. أشعر بشرايين صدري تتوسع .. وقنواته المغلقة منذ ولدت تتفتح لتستقبل رزق الله من الحليب الطاهر بمجرد أن طلب صغيرى رزقه من الله .. وأخذ يحيى يرضع حتى ارتوى ونام هانئا .. وسالت دموعي وأنا أرى عظمة الله تتجلى فى هذه المعجزة الربانية ..
قـال عمـر:
ممنوع أدخل أوضة النوم علشان سارة ويحيى نايمين فيها .. وماما نامت فى الأوضة التانية .. وحماتي في المطبخ .. طيب أنام فين أنا بقى، عند البواب؟
من أولها كده يا يحيى باشا حنتركن على الرف؟ .. ماشي ياعم .. بس لما تكبر ح أوريك .. خلاص حأنام فى الصالون وأمري لله .. بس فى البرد ده؟! يالا علشان الواحد يقوم عنده كساح ونخلص بقى ..
بس سارة وحشتني .. ويحيى كمان وحشني .. طيب أعمل ايه؟
اتسحبت لأنام بجوارهما في دفء الحجرة، ومشيت على أطراف أصابعي وفتحت الباب بمنتهى الهدوء، لأجد سارة حبيبتي نائمة في بحر عميق من شدة الإرهاق .. وبجوارها الباشا الذي احتل مكاني .. وجدتها فرصة لأدقق في ملامحه، لأجده ورث عيون سارة الجميلة، ولون بشرتها الخمري، وأخذ لون شعري الأسود، وشكل ذقني .. ولمست بشرته الحريرية وأنا أتمنى أن يكبر فوراً لألعب معه وأعرفه أني والده .. وقبّلته بحرص شديد .. ولكن يبدو أنـّني أقلقت منامه، فاستيقظ يبكي .. وحاولت إسكاته فلم أعرف طبعاً .. فصحيت سارة مفزوعة واكتشفت جريمتي وصرخت فيّ: حرام عليك ياعمرررررررررررر ..!
لا أدري لماذا تذكرت فيلم الحفيد؛ والأب يبكي وهو يشتري لوازم الولادة من مغات ودجاج وخلافه وأنا مع حماتي نشتري لوازم البيت والمغات ووو... مع طبعا اللمز واللمز من حماتي إننا مفروض نكون إشترينا كل الحاجات دى قبل الولادة .. وأنا أتحجج بأن سارة ولدت قبل ميعادها، وطبعا لم أقل أننا لم نملك ما نشترى به جناح كتكوت ..
اشترينا كمية من الدجاج تكفى حي شبرا، وطن مغات وحلبة وسكر وعسل وأرز ووو... وكدت أبكي أنا الآخر وأترك حماتي وحدها وأتعلل أن عندي مشوار لليونسكو .. لولا اني وجدتها وقت الحساب تخرج مبلغاً ضخماً وتحاسب هي .. رقصت من السعادة وأنا أقطب جبيني وأقول: ليه كده بس يا طنط؟ طيب لو ما كنتيش تحلفي..!!
قــالت ســارة:
إيه يا جماعة هو أنا وَحش؟ إزاي آكل فرخة كاملة لوحدي؟ وكمان مسلوقة؟! لا بجد حرام ..
لم تجد توسلاتي صدى أمام روسيا وأمريكا؛ أقصد ماما وحماتي ..أخيييرا أجدهم متفقين في شيء منذ زواجي ألا وهو ضرورة جعلي كالدرفيل بعد الولادة من كثرة الطعام .. فأجدني في الصباح مضطرة إلى شرب كوب كبير جداً من المغات الذى تعلوه طبقات من السمن البلدي والمكسرات، والذى يكفي وحده إلى جعلي شبعانة لمدة شهر .. ويتبعه كوب كبير من الحلبة بالعسل الأسود .. مش عارفة ليه .. وكل ما أبدأ بالإعتراض تجتاحني نظرات نارية من الطرفين تجعلني أبتلع الكوب والملعقة أيضاً ..
والمشكلة أنـّني مطالبة بشرب كميات لا نهائية من المغات والحلبة طوال اليوم .. وعندما أرى الكوب الميمون يتجه نحو فمي يكاد لسان حالي يقول: إشربي يا شابة، ماحدش بياكلها بالساهل .. ووقت الغداء أجدني مضطرة إلى أكل فرخة ضخمة في حجم الديك الرومي وحدي .. لا أعرف لماذا؟ ومثلها فى العشاء .. لا أعرف لماذا يظنون أن من تلد لابد أن تتحول إلى فيل بزلومة؟!! .. فينك يا عمر؟
مع تحياتى ادمن زكريات