قـالت سـارة:
لا أصدق أنـّه قد مرّ على ولادة يحيى 9 أشهر .. وكأني كنت أحمله داخل رحمي بالأمس .. أصبح إنساناً آخر .. زاد وزنه وأصبح شديد الشبه بي .. وفي خده غمازة تظهر بشدة عندما يضحك .. بدأ يحبو على الأرض ويضحك بشدة عندما ألاعبه .. وعندما أجرى وراءه يحبو بأقصى سرعته ليختبئ تحت الكنبة ويتخيل أنـّني لا أراه..!! متعلـّق بي بشكل لا يوصف ..
وعندما يجد أي شيء ملقى على الأرض لا يتردد أن يتذوقه أولاً .. وإن لم يعجبه يعطيه لي بنفس راضية .. مما جعلني طوال اليوم لا همّ لي الا أن أجعل الارض لا شيء عليها على الاطلاق، لأنه لا يفرق بين المسامير والحلوى ..
كلـّه إلى فمه .. وجعلني لا أهدأ طوال اليوم من التفتيش تحت أي كرسي يحلو له أن يختبىء تحته عن أي شىء ملقى .. ولو قطعة كلينكس .. خوفا من أن يبتلعها ..
مرحلة الحبو دي مرحلة خطيرة جداً .. ربنا يستر وتعدي على خير من غير ما عمر يطلقني .. لأنه لو وجد أي شيء ولو بنسة شعر سقطت مني تحول إلى خناقة كبيرة خوفاً على حياة الباشا ..
قـال عمـر:
ياااه على الروتين والشغل اللي ما بيرحمش .. أنا بجد تعبت خلاص .. نفسي آخد أجازة وأروح في مكان فااااضي لا أرى أي أحد على الاطلاق ..
قدمت على اجازة أسبوع وبالعافية رضيوا على 4 أيام فقط .. منهم الجمعة والسبت طبعاً .. بس مش مهم .. المهم إني اتخنقت وعاوز تغيير حالاً .. سارة كمان مطحونة بين شغلها وبين يحيى اللي أصبح عفريت وعاوز حارس عليه 24 ساعة كي لا يبتلع سم فيران مثلاَ ..
كلمت صديق قديم لي يمتلك شالية منعزل على شاطىء البحر الأحمر بعييييييد عن كل العالم .. الظاهر إنهم بنوه علشان يقتلوا فيه حد وبعدين غيروا رأيهم .. الشاليه يجنن، يبعد عن أي مبانى حوالى 30 كيلو .. وهو ده اللي أنا عاوزه بالظبط ..
قـالت سـارة:
"أهلا أهلا بالأستاذ يحيى .. أخبار مغامرات سعادتك إيه النهاردة؟"
قالها عمر وهو يحتضن يحيى الذي هلل لرؤيته وأخذ يقفز بين ذراعيه ..
قلت له: أسكت يا عمر ده جننني النهاردة .. طول النهار مستخبي وبأدور عليه .. يا إمّا تحت السفرة يا إما جوه دولاب المطبخ بيلعب فى الحلل .. إنت أكيد كنت جن زيه كده وإنت صغير وهو طالع لك ..
ضحك بقوة وأجاب: أيوة كده خليه راجل أمّال عاوزاه بنوتة؟ أما أنا محضر لك حتة مفاجأة تحفة ..
قفزت من الفرح وأنا أسمع وأمسكته من رقبته: مفاجأة؟ إيه يالا قول بسرررعة أحسن مش ح يحصل لك طيب ..
قال لي مبتسماً: ياساتر يارب .. هو ده الرد؟ على العموم أنا ح أقول ليحيى مش ليكي .. بص يا كابتن: أنا عارف إنـّك ما شفتش بحر قبل كده، علشان كده يالاّ روح هات المايوه بتاعك علشان ح نروح شالية يجنن أنا وإنت بس .. وح نسيب ماما المفترية دي هنا ..
وكأن يحيى فهم الكلام إنه مطلوب منه شيء .. فأخذ يحبو بسرعة وذهب يحضر الدبدوب المفضل عنده واعطاه لأبيه .. وظهرت علامات الحيرة على وجهه عندما غرقنا في الضحك من تصرفه وكأنه يقول فى سره: العالم دي مجانين ولا إيه النظام؟
سألت عمر: شاليه إيه يا عمر؟ إيه ده صاحبك وافق؟ الشالية بتاع البحر الاحمر؟
ردّ فى نشوة: ايوة يا سارة 3 أيام ما نشوفش ولا مخلوق السماء والبحر والهدوووووووء ..
فتحرك القلق داخلى لا اعرف له سببا وقلت له: هي طبعا حاجة مغرية جداً بس مش يمكن نحتاج حاجة ولا تحصل مشكلة هناك؟
فرد بتبرم: إنتي على طول متشائمة كده يا بنتي؟ ح يحصل إيه يعني؟ العفاريت ح ياكلونا؟ الشاليه مجهّز بكل حاجة وحناخد كل أكلنا معانا ح يحصل يعني؟ يالاّ حضري كل لوازمنا علشان نلحق نوصل .. الطريق طويل ..
وأخييييراً وصلنا مع أول خيوط للفجر .. المكان منعزل عن العالم، ولكنه ساحر .. شاليه رائع من طابقين مبنى على الطراز الإنجليزي .. وتحيطه حديقة صغيرة ومطل على البحر الذي لم أر في صفاء مياهه من قبل .. ودرجاته الفيروزية والزرقاء التي تجعلك تسبـّح لله كل لحظة من فرط روعته .. وفي الداخل وجدناه مؤسس بذوق راقي وبسيط يجعلك تشعر بالراحة من أوّل لحظة .. ونسمات البحر الرائعة تغسل عنا تعب العمل وإرهاقه .. وتوقظ المشاعر التي خنقتها الروتين والرتابة ..
أفرغت الحقائب بسرعة وصلينا الفجر أنا وعمر ولم نستطع النوم .. فتسللنا وتركنا يحيى نائما وجلسنا على الرمال الناعمة نراقب الشروق وأشعة الشمس الوليدة التي تعانق الأمواج على إستحياء .. وكأنها عروس خجلى ..
نظر لي عمر نظرة لم أرها منذ شهور من فرط انشغالنا في العمل والمسئوليات .. وقال لي: بحبــّــك ..
قـال عمـر:
ياسلام لو الواحد يعيش كده طول عمره .. يااااه .. أعصابي رايقة جداً وسارة في قمة السعادة وهى تحاول أن تبلل أرجل يحيى في مياة البحر، وهو خائف وينظر لهذا الشيء الخرافي الذى يراه لأول مرة وكأنه يقول: البتاع ده ما شفتوش في البيت عندنا قبل كده .. ثم بعد فترة تعجبه اللعبة ويحرك يديه وقدميه بكل قوة حتى يغرق أمه وهي تهدده بانتقام ..
قـالت سـارة:
مرّت علينا أمسية هادئة ونحن ننعم بالهدوء والصفاء، ولم يكدرني سوى أنـّني لاحظت أن يحيى يرفض الطعام منذ عدة ساعات .. وبعد فترة وجدته يصرخ ويبكب بلا انقطاع .. حاول عمر طمأنتي أنه من تغيير الجو .. حاولت تصديق هذا وأعطيته دواءاً للمغص ولكنه لم يستقر فب معدته لدقائق وتقيئه بشكل أفزعني .. ولم تمضي إلا ساعة ووجدت لديه إسهال رهيب .. والقيء لا ينقطع، وحرارته مرتفعة جداً .. صرخت على عمر الذي إرتبك ولم يدري ماذا يفعل ..
مرض يحيى من قبل عدة مرات .. ولكنه أبداً لم يكن بمثل هذه الشدة .. نظرت إليه وهو تقريباً مغشي عليه من فرط السوائل التي فقدها بشكل مفاجىء .. إرتجفت ولم تحملني قدماي .. وبكى عمر وهو يرتدي ملابسه بسرعة لنذهب لأقرب طبيب .. ولكن أين الطبيب فى هذا المكان المنعزل وفي هذا الوقت من السنة .. والذي لم يبدأ فيه موسم التصييف بعد .. فجميع القرى السياحية ـ البعيدة جدا ـ أيضا خاوية ..
قـال عمـر:
جرينا على السيارة وسارة تحمل يحيى وهو تقريباً فاقد الوعي وفي شدة الذبول .. وأنا لا أعرف إلى أين أذهب..! ودموع سارة لا تتوقف وهي تردد كلمة واحدة بمنتهى الوعيد: إنت السبب .. أنا قلت لك بلاش المكان المقطوع ده .. لو حصل حاجة لإبني مش ح اسامحك أبداً .. وكأنه ليس إبني أنا الآخر .. فعلاً الانثى في الأصل أم ثم زوجة ..
مرت نحو ساعة ونصف وأنا أسير بلا هدى ولا أجد بشائر لأي مستشفى أو حتى عيادة، وانا أصرخ داعيا الله أن يغيثنا .. وكل لحظة يحيى يزداد ذبولاً وشحوباً .. وسارة يكاد قلبها يتوقف من فرط البكاء والدعاء .. حتى أخيراً وجدنا نقطة إسعاف على الطريق العام، ويبدو أنـّها مهجورة ..فجرينا عليها فلم نجد إلا حجرة واحدة للكشف يبدو أنـّه لم يدخلها مريض منذ أعوام .. ووجدنا ممرض نصف نائم قابلنا ببرود شديد .. صرخنا به سائلين عن الطبيب، فأخبرنا بلا مبالاة أنه ليس موجود .. لأول مرة فى حياتي أرى سارة الوديعة تتحول إلى نمرة شرسة مستعدة للقتل في أي لحظة، وصوتها يصل إلى عنان السماء وهي تصرخ في الممرض بشراسة: لو في ظرف 5 دقايق ما جبتش الدكتور حالاً أقسم بالله العظيم لأقتلك بإيدي وأدفنك في الحتة المقطوعة دي ..
ويبدو أنّ الرجل إرتعب من غضبها الهائل وفر كالريح يوقظ الطبيب من سكن الأطباء .. وجاء لنجده طبيباً صغير السن حديث التعيين .. لا أعرف كيف يضعون طبيب قليل التجربة في مكان وحده لا يجد من يعلمه ويكون مسئول بمفرده عن كل شىء ..
[b]قـالت سـارة:
بدأ الطبيب في الكشف على يحيى وتعابير وجهه غير مطمئنة .. وبعد قليل أخبرنا أن الحالة محتمل ان تكون تسمم من إبتلاعه شىء فاسد أدت إلى حالة القىء والإسهال الشديدين .. والأهم الآن هو انقاذه من حالة الجفاف الخطيرة ..
هبط علينا كلامه كالصاعقة، وأحسست برعب لم أشعر به فى حياتي .. توقف عقلي عن العمل، وتوقفت الحياة عن دورانها، حتى البكاء لا أقدر عليه .. أنظر إليه وهو فاقد الوعي وشاحب شحوب الموتى .. أكيد إبتلع شىء من الشالية أو البحر في غفلة مني .. بماذا تشعر الأم إذا مات ولدها؟ .. يارب ..
لم أستطع الحفاظ على نعمتك فسامحني واحفظها لي برحمتك وسلطانك .. يارب .. يارب ..
قـال عمـر:
إنطلقت بأقصى سرعة الى الصيدلية للمرة الألف لإحضار المحاليل والادوية التى يطلبها الطبيب كل ساعة .. يحيى يزداد ذبولا ولا يستعيد وعيه من شدة الجفاف .. منذ 5 ساعات وسارة لا تفارقه وكل المحاليل تخترق أوردته بلا فائدة .. يارب لا أعرف كيف أدعوك في هذه المحنة .. قد أكون إرتكبت العديد من الذنوب ولا أستحق غفرانك .. ولكن إرحم هذا الملاك من أجل أمه التي تفقد الحياة كل دقيقة بجواره .. إرحمه من أجلي فهو نبض قلبي وثمرة عمري ..
ظهرت أنوار نقطة الإسعاف أمامي .. وقبل أن أصل وجدت رجل عجوز مسكين ينام على جانب الطريق .. لا أعرف من أين جاءني هذا الخاطر فأوقفت السيارة وأنا فى أمس الحاجة لكل دقيقة .. نزلت وأعطيته كل المال الذي فى جيبي بدون أن أبقى معي شىء وبلا تفكير .. تذكرت: "داووا مرضاكم بالصدقة" .. لعل الله ينقذ بها إبني الوحيد .. يارب .. يارب ..
إقتربت وأنا أخشى أن أرى وجوهاً باكية في إنتظاري .. ولكنـّني وجدت سارة تهرول في اتجاهي وصوتها مختلط بين البكاء وعدم التصديق وهي تهتف: يحيى فاق يا عمر
مع تحياتى ادمن زكريات